فصل: الْوَاجِبَاتُ وَالسُّنَنُ الظَّاهِرَةُ وَاللَّوَازِمُ بِإِفْسَادِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.الصِّنْفُ الرَّابِعُ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ:

وَهُوَ الشَّرِيفُ الَّذِي أَسْلَمَ وَهُوَ مُطَاعٌ فِي قَوْمِهِ، وَفِي إِعْطَائِهِ تَقْرِيرُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَرْغِيبُ نَظَائِرِهِ وَأَتْبَاعِهِ.

.الصِّنْفُ الْخَامِسُ: الْأَرِقَّاءُ:

يُدْفَعُ إِلَى السَّيِّدِ مَا يُفَكُّ بِهِ رَقَبَةُ الْعَبْدِ، وَيُدْفَعُ لِلْعَبْدِ أَيْضًا مَا يُفَكُّ بِهِ رَقَبَتُهُ.

.الصِّنْفُ السَّادِسُ: الْغَارِمُونَ:

وَالْغَارِمُ هُوَ الَّذِي اسْتَقْرَضَ فِي طَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ وَهُوَ فَقِيرٌ، فَإِنِ اسْتَقْرَضَ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَا يُعْطَى إِلَّا إِذَا تَابَ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَقْضِ دَيْنَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ قَدِ اسْتَقْرَضَ لِمَصْلَحَةٍ وَإِطْفَاءِ فِتْنَةٍ.

.الصِّنْفُ السَّابِعُ: الْغُزَاةُ:

الَّذِينَ لَهُمْ مَرْسُومٌ فِي دِيوَانِ الْمُرْتَزِقَةِ فَيُصْرَفُ إِلَيْهِمْ سَهْمٌ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ إِعَانَةً لَهُمْ عَلَى الْغَزْوِ.

.الصِّنْفُ الثَّامِنُ: ابْنُ السَّبِيلِ:

وَهُوَ الَّذِي شَخَصَ مِنْ بَلَدِهِ لِيُسَافِرَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ أَوِ اجْتَازَ فِيهِ فَيُعْطَى إِنْ كَانَ فَقِيرًا وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِبَلَدٍ آخَرَ أُعْطِيَ بِقَدْرِ بُلْغَتِهِ.

.وَظَائِفُ الْقَابِضِ:

وَهِيَ أَرْبَعٌ:
الْأُولَى: أَنْ يَفْهَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ صَرْفَهُ إِلَيْهِ لِيَكْفِيَ هَمَّهُ وَيَكُونَ عَوْنًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ، فَإِنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَانَ كَافِرًا لِأَنْعُمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَحِقًّا لِلْبُعْدِ وَالْمَقْتِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْكُرَ الْمُعْطِيَ وَيَدْعُوَ لَهُ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَكُونَ شُكْرَهُ دُعَاؤُهُ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَاسِطَةً وَلَكِنَّهُ طَرِيقُ وُصُولِ نِعْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ، وَلِلطَّرِيقِ حَقٌّ مِنْ حَيْثُ جَعَلَهُ اللَّهُ طَرِيقًا وَوَاسِطَةً، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي رُؤْيَةَ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ فِي مَوَاضِعَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَهُوَ خَالِقُهَا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30، 44] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْدَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَادْعُوَا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» وَمِنْ تَمَامِ الشُّكْرِ أَنْ يَسْتُرَ عُيُوبَ الْعَطَاءِ إِنْ كَانَ فِيهِ عَيْبٌ وَلَا يُحَقِّرَهُ وَلَا يَذُمَّهُ وَلَا يُعَيِّرَهُ بِالْمَنْعِ إِذَا مَنَعَ، وَيُفَخِّمُ عِنْدَهُ نَفْسَهُ وَعِنْدَ النَّاسِ صَنِيعَهُ، فَوَظِيفَةُ الْمُعْطِي الِاسْتِصْغَارُ وَوَظِيفَةُ الْقَابِضِ تَقَلُّدُ الْمِنَّةِ وَالِاسْتِعْظَامِ، وَعَلَى كُلِّ عَبْدٍ الْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ رُؤْيَةَ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَرَى الْوَاسِطَةَ وَاسِطَةً فَقَدْ جَهِلَ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ أَنْ يَرَى الْوَاسِطَةَ أَصْلًا.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا يَأْخُذُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حِلِّهِ تَوَرَّعَ عَنْهُ، فَلَا يَأْخُذُ مِمَّنْ أَكْثَرُ كَسْبِهِ مِنَ الْحَرَامِ إِلَّا إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَا يُسَلَّمُ لَهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ مَالِكًا مُعَيَّنًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ فَتْوَى الشَّرْعِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ وَذَلِكَ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْحَلَالِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَوَقَّى مَوَاقِعَ الرِّيبَةِ وَالِاشْتِبَاهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَأْخُذُهُ فَلَا يَأْخُذُ إِلَّا الْمِقْدَارَ الْمُبَاحَ، وَلَا يَأْخُذُ إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ إِذَا تَحَقَّقَتْ حَاجَتُهُ فَلَا يَأْخُذَنَّ مَالًا كَثِيرًا بَلْ مَا يُتَمِّمُ كِفَايَتَهُ مِنْ وَقْتِ أَخْذِهِ إِلَى سَنَةٍ، فَهَذَا أَقْصَى مَا يُرَخَّصُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّخَرَ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَةٍ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ مَا يَشْتَرِي بِهِ ضَيْعَةً فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ طُولَ عُمُرِهِ أَوْ يُهَيِّئَ بِضَاعَةً لِيَتَّجِرَ بِهَا وَيَسْتَغْنِيَ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْغِنَى، وَقَدْ قَالَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا أَعْطَيْتُمْ فَأَغْنُوا. حَتَّى ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَنِ افْتَقَرَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ مَا يَعُودُ بِهِ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ وَلَوْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَلَمَّا تَبَرَّعَ أبو طلحة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِبُسْتَانِهِ، قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلْهُ فِي قَرَابَتِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» فَأَعْطَاهُ حسان وَأبا قتادة فَحَائِطٌ مِنْ نَخْلٍ لِرَجُلَيْنِ كَثِيرٌ مُغْنٍ.

.صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ وَفَضْلُهَا وَآدَابُ أَخْذِهَا وَإِعْطَائِهَا:

.فَضِيلَةُ الصَّدَقَةِ:

مِنَ الْأَخْبَارِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا وَلَوْ بِتَمْرَةٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ» وَسُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَاقَةَ وَلَا تَمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [الْبَقَرَةِ: 273]»، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَكْسُو مُسْلِمًا إِلَّا كَانَ فِي حِفْظِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا دَامَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ رُقْعَةٌ».
وَمِنَ الْآثَارِ قَوْلُ عروة: لَقَدْ تَصَدَّقَتْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَنَّ دِرْعَهَا لِمُرَقَّعٌ.
وَكَانَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْفَضْلَ عِنْدَ خِيَارِنَا لَعَلَّهُمْ يَعُودُونَ بِهِ عَلَى أُولِي الْحَاجَةِ مِنَّا.
وَقَالَ ابن أبي الجعد: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتَدْفَعُ سَبْعَمِائَةِ بَابٍ مِنَ السُّوءِ، وَفَضْلُ سِرِّهَا عَلَى عَلَانِيَتِهَا بِسَبْعِينَ ضِعْفًا.

.وُجُوبُ فَضْلِ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 271] وَفِي الْإِخْفَاءِ خَمْسَةُ مَعَانٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَبْقَى لِلسَّتْرِ عَلَى الْأَخْذِ، فَإِنَّ أَخْذَهُ ظَاهِرًا هَتْكُ سِتْرِ الْمُرُوءَةِ وَكَشْفٌ عَنِ الْحَاجَةِ، وَخُرُوجٌ عَنْ هَيْئَةِ التَّعَفُّفِ وَالتَّصَوُّنِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي يَحْسَبُ الْجَاهِلُ أَهْلَهُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَسْلَمُ لِقُلُوبِ النَّاسِ وَأَلْسِنَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْسُدُونَ أَوْ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ أَخْذَهُ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ أَخْذٌ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ؛ وَالْحَسَدُ وَسُوءُ الظَّنِّ وَالْغَيْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ وَصِيَانَتُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ أَوْلَى.
قَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: إِنِّي لَأَتْرُكُ لُبْسَ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ خَشْيَةَ أَنْ يَحْدُثَ فِي جِيرَانِي حَسَدٌ.
وَقَالَ آخَرُ: خَشْيَةَ أَنْ يَقُولَ إِخْوَانِي مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا.
الثَّالِثُ: إِعَانَةُ الْمُعْطِي عَلَى إِسْرَارِ الْعَمَلِ فَإِنَّ فَضْلَ السِّرِّ عَلَى الْجَهْرِ فِي الْإِعْطَاءِ أَكْثَرُ وَالْإِعَانَةَ عَلَى إِتْمَامِ الْمَعْرُوفِ مَعْرُوفٌ. دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ شَيْئًا ظَاهِرًا فَرَدَّهُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ فِي السِّرِّ فَقَبِلَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا عَمِلَ بِالْأَدَبِ فِي إِخْفَاءِ مَعْرُوفِهِ فَقَبِلْتُهُ وَذَاكَ أَسَاءَ أَدَبَهُ فِي عَمَلِهِ فَرَدَدْتُهُ عَلَيْهِ. وَرَدَّ بَعْضُهُمْ مَا دُفِعَ إِلَيْهِ عَلَانِيَةً وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ أَشْرَكْتَ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيمَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمْ تَقْنَعْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَدَدْتُ عَلَيْكَ شِرْكَكَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْأَخْذِ ذُلًّا وَامْتِهَانًا وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ.
الْخَامِسُ: الِاحْتِرَازُ عَنْ شُبْهَةِ الشَّرِكَةِ لِحَدِيثِ: «مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا» وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فَيَنْبَغِي لِلْمُخْلِصِ أَنْ يَكُونَ مُرَاقِبًا لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَتَدَلَّى بِحَبْلِ الْغُرُورِ وَلَا يَنْخَدِعَ بِمَكْرِ الشَّيْطَانِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ حُسْنَ الْعَوْنِ وَالتَّوْفِيقَ.

.كِتَابُ أَسْرَارِ الصَّوْمِ:

أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ الْمِنَّةَ بِمَا دَفَعَ عَنْهُمْ كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَخَيَّبَ ظَنَّهُ، إِذْ جَعَلَ الصَّوْمَ حِصْنًا لِأَوْلِيَائِهِ وَجُنَّةً، وَقَدْ جَاءَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمَرِ: 10] فَقَدْ جَازَ ثَوَابُ الصَّوْمِ قَانُونَ التَّقْدِيرِ وَالْحِسَابِ، وَنَاهِيكَ فِي مَعْرِفَةِ فَضْلِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِخُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ لِأَجْلِي فَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا الَّذِي أَجْزِي بِهِ» وَهُوَ مَوْعُودٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ صَوْمِهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ إِفْطَارِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ». وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 17] كَانَ عَمَلُهُمُ الصِّيَامَ لِأَنَّهُ قَالَ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمَرِ: 10] فَيُفْرَغُ لِلصَّائِمِ جَزَاؤُهُ إِفْرَاغًا وَيُجَازَفُ جُزَافًا، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وَهْمٍ وَتَقْدِيرٍ، وَجَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ وَمُشَرِّفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا لَهُ، لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّوْمَ كَفٌّ وَتَرْكٌ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ سِرٌّ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ يُشَاهَدُ، وَجَمِيعُ الطَّاعَاتِ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ وَمَرْأًى، وَالصَّوْمُ لَا يَرَاهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ عَمَلٌ فِي الْبَاطِنِ بِالصَّبْرِ الْمُجَرَّدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَهْرٌ لِعَدُوِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ وَسِيلَةَ الشَّيْطَانِ الشَّهَوَاتُ وَإِنَّمَا تَقْوَى بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَفِي قَمْعِ عَدُوِّ اللَّهِ نُصْرَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَنَاصِرُ اللَّهِ تَعَالَى مَوْقُوفٌ عَلَى النُّصْرَةِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 7] فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ الصَّوْمُ بَابَ الْعِبَادَةِ وَصَارَ جُنَّةً؛ وَإِذَا عَظُمَتْ فَضِيلَتُهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَلَابُدَّ مِنْ بَيَانِ شُرُوطِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِذِكْرِ أَرْكَانِهِ وَسُنَنِهِ وَشُرُوطِهِ الْبَاطِنَةِ.

.الْوَاجِبَاتُ وَالسُّنَنُ الظَّاهِرَةُ وَاللَّوَازِمُ بِإِفْسَادِهِ:

أَمَّا الْوَاجِبَاتُ الظَّاهِرَةُ فَسِتَّةٌ:
الْأَوَّلُ: مُرَاقَبَةُ أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنْ غَمَّ فَاسْتِكْمَالُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ، وَنَعْنِي بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمَ، وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ. وَلَا يَثْبُتُ هِلَالُ شَوَّالَ إِلَّا بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ، وَمَنْ سَمِعَ عَدْلًا وَوَثَقَ بِقَوْلِهِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ.
الثَّانِي: النِّيَّةُ، وَلَابُدَّ لِكُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ نِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ جَازِمَةٍ يَنْوِي فَرِيضَةَ صَوْمِ رَمَضَانَ لِلَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: الْإِمْسَاكُ عَنْ إِيصَالِ شَيْءٍ إِلَى الْجَوْفِ عَمْدًا مَعَ ذِكْرِ الصَّوْمِ فَيَفْسُدُ صَوْمُهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالسُّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ، وَلَا يَفْسُدُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالِاكْتِحَالِ وَإِدْخَالِ الْمَيْلِ فِي الْأُذُنِ وَالْإِحْلِيلِ وَمَا يَصِلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْ غُبَارِ الطَّرِيقِ أَوْ ذُبَابَةٍ تَسْبِقُ إِلَى جَوْفِهِ، أَوْ مَا يَسْبِقُ إِلَى جَوْفِهِ فِي الْمَضْمَضَةِ فَلَا يُفْطِرُ إِلَّا إِذَا بَالَغَ فِي الْمَضْمَضَةِ فَيُفْطِرُ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ، وَهُوَ الَّذِي أَرَدْنَا بِقَوْلِنَا عَمْدًا. فَأَمَّا ذِكْرُ الصَّوْمِ فَأَرَدْنَا بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنِ النَّاسِي فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ.
الرَّابِعُ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الْجِمَاعِ، فَإِنْ جَامَعَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ، وَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا وَاحْتَلَمَ فَأَصْبَحَ جُنُبًا لَمْ يُفْطِرْ.
الْخَامِسُ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الِاسْتِمْنَاءِ وَهُوَ إِخْرَاجُ الْمَنِيِّ قَصْدًا بِجِمَاعٍ أَوْ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ، وَلَا يُفْطِرُ بِقُبْلَةِ زَوْجَتِهِ وَلَا بِمُضَاجَعَتِهَا مَا لَمْ يُنْزِلْ لَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا أَوْ مَالِكًا لِإِرْبِهِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّقْبِيلِ، وَتَرْكُهُ أَوْلَى.
السَّادِسُ: الْإِمْسَاكُ عَنْ إِخْرَاجِ الْقَيْءِ فَالِاسْتِقَاءُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَإِذَا ابْتَلَعَ نُخَامَةً مِنْ حَلْقِهِ أَوْ صَدْرِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ رُخْصَةً لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ إِلَّا أَنْ يَبْتَلِعَهُ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى فِيهِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا لَوَازِمُ الْإِفْطَارِ فَأَرْبَعَةٌ: الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ، وَالْفِدْيَةُ، وَإِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ.
أَمَّا الْقَضَاءُ فَوُجُوبُهُ عَامٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ تَرَكَ الصَّوْمَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَالْحَائِضُ تَقْضِي الصَّوْمَ وَكَذَا الْمُرْتَدُّ. أَمَّا الْكَافِرُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ. وَلَا يُشْتَرَطُ التَّتَابُعُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَلَكِنْ يَقْضِي كَيْفَ شَاءَ مُتَفَرِّقًا وَمَجْمُوعًا.
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَجِبُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ، وَمَا عَدَاهُ لَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ، وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ أَعْسَرَ فَصَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَإِنْ عَجَزَ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُدًّا مُدًّا.
وَأَمَّا إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ فَيَجِبُ عَلَى مَنْ عَصَى بِالْفِطْرِ أَوْ قَصَّرَ فِيهِ. وَيَجِبُ الْإِمْسَاكُ إِذَا شَهِدَ بِالْهِلَالِ عَدْلٌ وَاحِدٌ يَوْمَ الشَّكِّ. وَالصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ إِلَّا إِذَا لَمْ يُطِقْ.
وَأَمَّا الْفِدْيَةُ فَتَجِبُ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ إِذَا أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى وَلَدَيْهِمَا لِكُلِّ يَوْمٍ مُدُّ حِنْطَةٍ لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ مَعَ الْقَضَاءِ، وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ إِذَا لَمْ يَصُمْ تَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا.

.سُنَنُ الصِّيَامِ:

تَأْخِيرُ السُّحُورِ، تَعْجِيلُ الْفِطْرِ بِالتَّمْرِ أَوِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، الْجُودُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ، الِاعْتِكَافُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ. وَلَا بَأْسَ فِي الْمَسْجِدِ بِالطِّيبِ وَعَقْدِ النِّكَاحِ وَبِالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَغَسْلِ الْيَدِ فِي الطَّسْتِ فَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.

.أَنْوَاعُ الصَّوْمِ وَدَرَجَاتُهُ:

اعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: صَوْمُ الْعُمُومِ، وَصَوْمُ الْخُصُوصِ، وَصَوْمُ خُصُوصِ الْخُصُوصِ. أَمَّا صَوْمُ الْعُمُومِ: فَهُوَ كَفُّ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا صَوْمُ الْخُصُوصِ: فَهُوَ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ عَنِ الْآثَامِ، وَأَمَّا صَوْمُ خُصُوصِ الْخُصُوصِ: فَصَوْمُ الْقَلْبِ عَنِ الْهِمَمِ الدَّنِيَّةِ وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْكُلِّيَّةِ.

.أَسْرَارُ الصَّوْمِ وَشُرُوطُهُ الْبَاطِنَةُ:

هِيَ سِتَّةُ أُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّهُ عَنِ الِاتِّسَاعِ فِي النَّظَرِ إِلَى كُلِّ مَا يُذَمُّ وَيُكْرَهُ وَإِلَى كُلِّ مَا يُشْغِلُ الْقَلْبَ وَيُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّانِي: حِفْظُ اللِّسَانِ عَنِ الْهَذَيَانِ وَالْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْفُحْشِ وَالْجَفَاءِ وَالْخُصُومَةِ وَالْمِرَاءِ.
الثَّالِثُ: كَفُّ السَّمْعِ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى كُلِّ مَكْرُوهٍ لِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ قَوْلُهُ حُرِّمَ الْإِصْغَاءُ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ سَوَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ السَّمْعِ وَأَكْلِ السُّحْتِ فَقَالَ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [الْمَائِدَةِ: 42].
الرَّابِعُ: كَفُّ بَقِيَّةِ الْجَوَارِحِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَنِ الْآثَامِ وَعَنِ الْمَكَارِهِ، وَكَفُّ الْبَطْنِ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَقْتَ الْإِفْطَارِ فَلَا مَعْنَى لِلصَّوْمِ عَنِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ ثُمَّ الْإِفْطَارِ عَلَى الْحَرَامِ، فَمِثَالُ هَذَا الصَّائِمِ مِثَالُ مَنْ يَبْنِي قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» فَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُفْطِرُ عَلَى الْحَرَامِ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُمْسِكُ عَنِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ وَيُفْطِرُ عَلَى لُحُومِ النَّاسِ بِالْغِيبَةِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَحْفَظُ جَوَارِحَهُ عَنِ الْآثَامِ.
الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَسْتَكْثِرَ مِنَ الطَّعَامِ الْحَلَالِ وَقْتَ الْإِفْطَارِ بِحَيْثُ يَمْتَلِئُ، فَمَا مِنْ وِعَاءٍ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَطْنٍ مُلِئَ مِنْ حَلَالٍ، وَكَيْفَ يُسْتَفَادُ مِنَ الصَّوْمِ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ إِذَا تَدَارَكَ الصَّائِمُ عِنْدَ فِطْرِهِ مَا فَاتَهُ ضَحْوَةَ نَهَارِهِ، وَرُبَّمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي أَلْوَانِ الطَّعَامِ، حَتَّى اسْتَمَرَّتِ الْعَادَاتُ أَنْ يُدَّخَرَ جَمِيعُ الْأَطْعِمَةِ لِرَمَضَانَ فَيُؤْكَلَ مِنَ الطَّعَامِ فِيهِ مَا لَا يُؤْكَلُ فِي عِدَّةِ أَشْهُرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَقْصُودَ الصَّوْمِ الْخَوَاءُ وَكَسْرُ الْهَوَى لِتَقْوَى النَّفْسُ عَلَى التَّقْوَى، وَإِذَا دُفِعَتِ الْمَعِدَةُ مِنْ ضَحْوَةِ نَهَارٍ إِلَى الْعِشَاءِ حَتَّى هَاجَتْ شَهْوَتُهَا وَقَوِيَتْ رَغْبَتُهَا ثُمَّ أُطْعِمَتْ مِنَ اللَّذَّاتِ وَأُشْبِعَتْ زَادَتْ لَذَّتُهَا، وَتَضَاعَفَتْ قُوَّتُهَا، وَانْبَعَثَ مِنَ الشَّهَوَاتِ مَا عَسَاهَا كَانَتْ رَاكِدَةً لَوْ تُرِكَتْ عَلَى عَادَتِهَا، فَرُوحُ الصَّوْمِ وَسِرُّهُ تَضْعِيفُ الْقُوَى الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الشَّيْطَانِ فِي الْعَوْدِ إِلَى الشُّرُورِ، وَلَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّقْلِيلِ، وَمَنْ جَعَلَ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ صَدْرِهِ مِخْلَاةً مِنَ الطَّعَامِ فَهُوَ عَنِ الْمَلَكُوتِ مَحْجُوبٌ.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ بَعْدَ الْإِفْطَارِ مُضْطَرِبًا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ إِذْ لَيْسَ يَدْرِي أَيُقْبَلُ صَوْمُهُ فَهُوَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ يُرَدُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْمَمْقُوتِينَ، وَلْيَكُنْ كَذَلِكَ فِي آخِرِ كُلِّ عِبَادَةٍ يَفْرَغُ مِنْهَا.